في التاريخ السياسي لكل الأمم، ظلّت قضايا التهميش والحرمان هي الأكثر حضورًا في شعارات النخب، والأقل حضورًا في حساباتها الفعلية.
كانت الهشاشة دائمًا مادة جاهزة للاستهلاك الخطابي، وسلّمًا يتسلقه الطامحون، وذريعة لتأجيج الانقسام. لذلك لم يكن التحدي الحقيقي يومًا في رفع الشعارات، بل في قطع الطريق على من يتاجرون بهذه الفئات، عبر تحويلهم من موضوع استغلال إلى موضوع عناية.
ومن يتابع التحولات العميقة التي تشهدها موريتانيا اليوم، يدرك أن فلسفة رئيس الجمهورية لا تقوم على مواجهة المتاجرين بالخطاب، بل على اغلاق السوق التي كانوا يعتاشون منها. فحين تذهب الدولة مباشرة إلى الطبقات الأكثر هشاشة، وتخاطب احتياجاتها الواقعية، فإنها تُسقط تلقائيًا كل الوسائط التي بنت حضورها على التبرم و التأليب و الادعاء.
إن هذه الفلسفة البسيطة والعميقة كانت نتيجة منتظرة حين بدأت الثورة غير المسبوقة في مجال الحماية الاجتماعية، فمن خلال تلك المقاربة استطاع الرئيس غزواني أن يحقق جملة من الأهداف الاستراتيجية.
فمن حيث العدالة الاجتماعية انخرطت الدولة رسميا ولأول مرة وبكل اذرعها في عملية كبرى تهدف إلى تعميم النفاذ للحقوق وتحقيق أكبر وأهم برنامج للتضامن الوطني في المنطقة.
ونتيجة هذا البرنامج تحسنت كل المؤشرات الاقتصادية وخف الاحتقان الاجتماعي وتقلص حضور القبيلة والنافذين الذين اعتاشوا لعقود على استغلال منح الدولة كأدوات للابتزاز السياسي وفق أهواء والنافذين.
وبفضل هذا التوجه بدأ الخطاب الفئوية في الانحسار بعد أن بارت مصداقيته لدى الطبقات التي ظل حرمانها مادة للمتاجرة والاستغلال.
فالمهمَّش الذي يلمس حضور الدولة في حياته، لا يحتاج لمن "يصرخ باسمه" ولا لمن ينصّب نفسه محاميًا عنه. فقد أصبحت كرامته محمية بسياسات عامة ودون شروط أو أعباء،.
لقد انتقلت المقاربة من منطق الوعد إلى منطق الإنجاز، من الاعتراف بالمشكلة إلى تفكيك جذور الهشاشة عبر برامج خدماتية واجتماعية واقتصادية تصنع تغييرًا حقيقيًا:
تعميم النفاذ إلى المياه، فتح المسارات التنموية نحو القرى، توفير الحماية الاجتماعية، دعم الأسر محدودة الدخل، التكفل بذوي الاحتياجات الخاصة وأصحاب الأمراض المزمنة والمضطرين للعلاج في الخارج، والحمل والولادة والحالات المستعجلة والتكفل بعمليات بالعمليات العلاجات لذوي الدخل المحدود ، وتوسيع فرص الشباب عبر التكوين والتشغيل وفتح المشاريع والقروض الصغيرة... الخ .
هذه الإجراءات وغيرها الكثير، لا تجادل ولا تناظر أحدًا، لكنها تُغيّر حياة الناس، وهذا هو جوهر ما يقطع الطريق أمام المتاجرة. فالفئات الهشة حين تُرى وتُسمع وتُخدم، تسحب تلقائيًا شرعية تمثيلها من أي فاعل غير الدولة .
ما يميز هذه المقاربة أنها تنزع القداسة عن الوسيط، وتعيد العلاقة إلى أطرافها الشرعيين (الدولة والمجتمع)
وتُفكك البنية العاطفية التي يعيش عليها الخطاب الشعبوي، إذ تمنح المهمَّش حقه دون ضوضاء، وتوفر له الأمان دون أن تجعله مادة للصراع السياسي ودون ابتزاز مواقفه أو توجهاته .
إن الذين يتاجرون بالهشاشة لا يخشون الوعود الكاذبة، فقد ظلت لسنوات تعزز حججهم ، بل يخشون الأداء الذي يقطع الطريق على استغلالهم للمحرومين.
لا يخشون الخطب، بل يخشون البرامج لا يخشون قوة الدولة، بل يخشون عدالتها، لأن العدالة.
وهذا هو جوهر التحول الجاري: بناء دولة تجعل الإنصاف واقعًا يوميًا، لا شعارًا يتيمّم به المحتجون، ولا ذريعة يستثمرها من يعيشون من صناعة المظلومية. دولة تفهم أن التنمية ليست في بناء الجدران بل في نفاذ الإنسان.
إن أهم ميزة لنظام الرئيس غزواني هو أنه نفذ سياسات الإنصاف دون الخوض في صراع مع أحد، إذ كان صراعه مع التاريخ الطويل لحرمان .
إن أقوى ما واجه المتاجرين بحقوق المهمَّشين هو أنهم انهزموا دون خوض معركة .
لقد اتسع الحرق على الراقع كما يقال وبدأ الفئويون في لملمة ما تبقى من وجودهم والبحث عن حجج جديدة.
الطبقات الهشة في موريتانيا لم تعد صالحة كأدوات سياسية ولا كذخيرة خطابية بعد أن تم إدماجها في العملية التنموية وأصبحت ركنا أصيلا في السياسات العامة .
وحين يحدث هذا التحول، يصبح الطريق الذي سلكه تجار الشعارات مسدودًا….
هذا باختصار ما فعله غزواني.
الرئيس الذي غير قواعد اللعبة/ محمد أفـو








