إسلمو ولد عبد القادر : يكتب الخطوة الأخيرة على طريق الانتقال (مقال)

أربعاء, 20/02/2019 - 17:19

في الشهر الماضي، اقتربت بلادنا من كارثة سمح لها ذكاء خارق أو رد فعل وطني أو إحساس كبير بالمسؤولية، بتفاديها بفضل الله. دعونا نتجاهل ما حدث في 15 يناير 2019 ، لأنه كما يقول  المنمون الرعاة، لا يهم المكان الذى نزل فيه المطر، إذا أمكن إحضار الحيوانات إليه. إن التجميد النهائي لمحاولة كسرعنق الدستور أعطى الموريتانيين الفرصة، إذا ما نجحوا، لاختراق الخطوة الأخيرة من التحول الذي بدأ في عام 2005 وانحرف البلد عن مساره الأصلي.ولا يهمنا ايضا الغا ء مسؤؤلية ما حدث على اى جهة لان المهم هو الاشارة الى هذا الانحراف خلف الكثير من التصرفات وخلق مشهدًا سياسيًا تشكل عن طريق الصدفة، استنادًا إلى الخلافات، ليس على أساس الأفكار و المفاهيم، وإنما على المصالح الشخصية السافلة بشكل لا يصدق في بلد يشكل الزهد فى ثقافته  حتى وقت قريب ، حجر الزاوية الأساسية

اما اليوم ، فنحن على مفترق طرق الضرورات والرهانات الرئيسية التي ندعونا على وجه السرعة الى  ، قراءة تاريخنا  القديم والحديث بصورة متأنية لا تقبل المساومة ولا المحاباة لاستخلاص الدروس التي يمكن أن تساعدنا على توجيه بلدنا نحو شاطئ هادئ. يجب أن نذكر كما فعلنا اكثر من مرة أنه في 16 يونيو 1898، عندما دخلت وحدة من الجيش الفرنسي لأول مرة في أراضي موريتانيا الحالية ، اي  عند بئر باسايكونو، كان لا يوحد بلادنا سوى دينها المشترك.  ولم يمنحها الاستعمار أي شكل من أشكال التماسك باستثناء بعض التجمعات الضعيفة لتنظيم مقاومة لم تحظ بالإجماع مهما أراد البعض ان يسوقها كأسطورة  ليتغنى بها أطفالنا.

كانت هشاشة هذه الوحدة هي السبب الرئيسي وراء إدراك مؤسسي دولة ما بعد الاستعمار، أن الأحزاب الموجودة آنذاك ولا الانتخابات المقررة بموجب   1959و 1961 التعدد يين،  لا يمكن أن تسبب أي شيء سوى االخلافات والعداوات بين الإمارات، و القبائل والجماعات العرقية وحتى بين الأسر الحاكمة. كان مؤتمر أو بالأحرى تكتل الذى نظم فى الاك في شهر مايو 1958  مناسبة للموريتانيين لبناء دولتهم على أساس الإجماع بدل الاقتراع في انتظاران تقضي التحولات الاقتصادية والاجتماعية الثقافية على بقايا النظام الاجتماعي القديم الذى مازال يجول بين المواطن مع نفسه و بمنعه من  ان يرى نفسه من منظار جديد لا من خلال لونه أو قبيلته أو المكان الذي كان يحتله أجداده في الهرم الاجتماعي البدائي

كان الفريق الأول من قادة البلاد يدرك الأهمية الحيوية لهذا الإجماع التأسيسي في غياب عقد اجتماعي بالمعنى الذي يبحث عنه روسو ، وتمكن هذا الفريق من احترام شروطه. باعتماد صيغ التوازن الدائم عبر البحث المستمر عن الإجماع الوطني حول المسائل الأساسية مثل التقاسم العادل للمسؤوليات العامة و التوزيع العادل للريع الضئيل للسلطة السياسية بجميع أشكالها. لكن للأسف تكسرت مرآة الإجماع الوطني على صخرة حرب الصحراء المشئومة ذات المفعول السلبي المستديم، اذ انتصر جزء كبير من شعبنا، بما في ذلك بعض إفراد الجيش و القوات المسلحة ،"لأبناء العمومة الصحراويين". لقد كان بإمكاننا أن نستنتج الدرس بسرعة أن أي مقاربة أو إجراء وطني او سياسة تتجاهل حتمية احترام قواعد الإجماع، محكوم عليها بالفشل بل تعرّض البلاد لخطر الاضطراب، مهما كان الحماس الذي تولده في ظاهر الأمر

فنحن أذن مسئولون  في الأصل عن ظهور النظام العسكري الذي نريد اليم نهايته دون معرفة الطريق الأمثل للوصول الى ذالك و دون الاستعداد  لتقديم اى تضحية و دون تقديم دليل على أننا قادرون على ملء الفراغ المؤسسي الذي يستدعى هذا الشكل من الأنظمة عادة ودون تقديم دليل على أننا نستطيع إدارة البلاد بشكل أفضل من مواطنينا العسكريين. تصاعد العديد من الأصوات، بما في ذلك صوت الكاتب المتواضع لهذه السطو، وسنسمع على الدوم من يلعن على النظام العسكري.

 لنفترض ان هذه الأصوات على صواب ، لكن ماذا يمكن ان نضع محل هذا النظام عندما تكون القوى السياسية غير قادرة على تقديم بديل ذي مصداقية و النخبة الثقافية لا تستطيع وضع نفسها فوق الخصوصيات القبلية والعرقية والاجتماعية رغم ما تدعيه حسب  الخطاب  أصبح خاليا مناي طعم؟ لاشك ان هناك انةقادات كثيرة يمكن توجيها لحكم للجيش لكن أكبر الأخطاء التي ارتكبها هذا الأخير وقعت بسبب المد نيين الذين قادوا مسؤوليه عدة مرات نحو الهاوية.

 بعد انقلاب 10 يوليو 1979 ،حاولت التيارات القومية العربية، تصفية الحسابات مع حركة الكادحين باستخدام بعض الضباط المؤثرين في اللجنة العسكرية للإنقاذ الوطني، كما حاول حزب الكادحين ، بعد انقلاب 6 أبريل 1979، القضاء على البعثيين الذين ألردوا لهم الجميل بعد اغتيال العقيد أحمد ولد بوسيف، حيث ابعد العثيون الضباط الذين كانوا يعتبرون قريبين من الشيوعيين المزعومين. وفي سياق اخر نظّمت الحركة الإفريقية الموريتانية (MPAM) مجموعة من الضباط المنحدرين من مكونة هالبولار،و صورت لهم انه با مكانهم الإطاحة بنظام الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع.
 هذه ليست  ليست الا نبذة بسيطة من مظاهر التأثير السلبي على النخبة العسكرية من طرف السياسيين المدنيين ،بالاضافة الى محاولات تسلل التيارات الأيديولوجية فى القوات المسلحة وإرسال مئات الشباب اليها لتحضيرالانقلابات ونتيجة لذلك، لاتزال القوات المسلحة مسرحا للصراعات بين بعض هذه الطوايف.فمن اهم مكاسب النظام المنصرم انه اعاد بنية الجيش كما يبدو على اساس عقيدة عسكرية بحتة
وفي بعض الأوساط، يقال أن الجيش قد يكون عاجزا من حيث الأصل عن إدارة الدولة ، وهنا يجب أن نتحلى بالشجاعة لنقول إن المسيرين المد نيين للموارد العامة  ليسوا أكثر أمانة من نظرائهم العسكريين. على العكس من ذلك نلاحظ ان من بين هؤلاء، يُحسب الأشخاص المشتبه في قيامهم بسرقة الأموال العامة على أصابع اليد، في حين أن المدنيين الذين كدسوا ثروة هالة على حساب الدولة ، لا يحصى عددهم للأسف. إن الضباط الذين قدموا مثالا رابعا فى احترام الممتلكات العامة وفى الزهد معترف لهم به من طرف جميع الموريتانيين. امثال  المصطفى ولد محمد السالك، احمدو ولد عبد الله أحمد ولد منيه ، محمد الأمين ولد ندايان، الشيخ سيد أحمد ولد باب امين، أحمد ولد بكري، معاوية ولد سيد أحمد الطايع ، محمد خونة ولد هيد الله ، إلخ ، إلخ . كي لا نطيل على القارئ.

و في مجال أخر يوصف اطر الجيش بأنهم لا يصلحون لتسيير المناصب الحساسة اذ لا يتقنون فن التشاور لصناعة القرار فى أوضاع صعبة. ان هذا أيضا ادعاء لا أساس ل، لأن التكوين الأساسي للضابط يحتوى مادة محورية تسمى أسلوب التفكير التكتيكي (MRT)، و يستخدم هذا المنهج تصميم شجرة قرار أكثر صرامة و أكثر دقة من تلك التي تدرس في معاهد الإدارة العامة.  هذا ما اقتنع به خلال مسيرته المهنية، مؤلف هذه السطورالمتواضعة من تعاونه، في جميع مناصب وزارة الداخلية ، مع كبار الضباط الذين كان لهم المفعول الافضل على ادارة هذه الوزارة الحساسة.  ومن بين هؤلاء أحمدو ولد عبد الله ، ويال عبد الله الحسن ، وأحمد ولد منيه (رحم الله الجميع) ، ولا سيما العقيد جبريل ولد عبد الله الذي تفتقر البلاد في الوقت الراهن إلى قدرته الإدارية الهايلة. تجرّأ هؤلاء الوزراء العسكريون السابقون الذين تشاوروا بالقد ر الكافى مع الماونيهم من الإداريين ، و اقترحوا ونفذوا إصلاحات حيوية للبلد وأخذوا على الدوام الأبعاد الثقافية والأنثروبولوجية والاجتماعية في سياق قراراتهم

ان قراءة هذا الجانب من تاريخنا تعلمنا أن قيمة أي نظام، عسكري أو مدني، ترتبط ارتباطا وثيقا بقيمة  الرجال الذين هم في قيادته خاصة على الصعيد الاخلاقى. يجب اذن ان يكون الخيارالجوهرى بين نظام يرمي بالجيش فى مستنقعات السياسة وآخر يحفظه ويصونه كى يبقى فوق النزاعات التى لا دخل له فيها حتى يحتفظ بدوره النبيل. إذا شارك الجيش في اللعبة السياسية فان هذه الاخيرة تخلق داخله اقطاعيات ايديولوجية تتحول بسرعة إلى ميليشيات شخصية، تؤدي فى النهاية  إلى حرب أهلية لا نهاية لها كما هو الحال في الصومال منذ سقوط الجنرال سياد باري.

و في تاريخنا الاقتصادي، ارتكبنا أخطاء قاتلة اذ تبين أن النموذج الذي اعتمدتاه بعد الاستقلال كان مجرد وهم للعيش في نظام إنمائي شامل، في حين كان نظاما يكرس ا لتوزيع المنصف للبؤس، كما يقول دنغ شياو بينغ.  وبعد فشل هذا النموذج، قفزت البلاد من هذا الوهم الى جحيم الرأسمالية المتوحشة التي تولد أشكالاً جديدة من عدم المساواة اكثر خطورة على البلاد. لقد تعرضنا لخطورة التكيف الهيكلي الذي أغرانا بالحلم السخيف بالانتقال إلى طريقة ا نتاج مذهل لكونه أكثر تكيفًا مع سياقنا العام. لم ندرك آنذاك أن اقتصادنا يعتمد على رأس مال بيروقراطي زهيد، ومؤسسات عامة أنشئت على عجل بعد الاستقلال وموارد بشرية فاقدة لاى خبرة. ومع ذلك، فإن المؤسسات الدولية التي اقترحت علينا هذا التغيير وقبلناه دون تردد لا يمكن أن تتجاهل احتمال غياب الشفافية في عملية خصخصة الشركات الوطنية.لعدم ما يضمن توزيعا عادلا، بين رواد البرجوازية الوليدة ، "لرأس مال عام" يتألف بشكل حصري من بعض البني التحتية العقارية ، وأسهم رأس المال الهش للبنوك الرئيسية وبعض المزايا الضريبية.

وكانت إحدى نتائج هذه الطفرة العفوية هي تركيز الثروة في أيدي عدد قليل من الأسر، في وقت قلص فيه التكيف الهيكلي الى أقصى حد المهمة الإغاثية للدولة التى اصبحت محرومة من اكتتاب موظفين جدد والتكفل بالجوانب الأساسية للرعاية الصحية والتعليم وتقديم الدعم للمواد الأساسية، إضافة إلى ذلك، فقد أدت سياستنا الاقتصادية الليبرالية المتطرفة إلى انسحاب الحكومة من القطاع الزراعي، على الرغم من أن الزراعة نشاط اجتماعي أساسًا ، خاصة في بلد يسود فيه الوضع الجماعي وغير القابل للتجزئة لملكية الأراضي. إن مجتمعاتنا الزراعية ، سواء في وادي نهر السنغال أو في الأدواب، تعيش فقط على الأرض وأذرعها. إن الطبيعة القديمة لأدوات الإنتاج المتاحة لهم والسطح الضيق للأراضي الصالحة للزراعة يرغمون الفلاحين على العيش في بؤس لا يتصوره من ينامون تحت مكيفات تفرغ زينة. ما الذي يمكن أن نتوقع هولاء من دولة كهذه لم يتبق لها شيء عندما نتوقعون منها كل شيءلاسيما انها البداية، تعاني من نقص واضح في الشرعية في أعين شعبها؟

فهل من الغريب أن ما يسمى الجماعات الزنجية الأفريقية لم يعد يشعرأن الدولة دولتها وأن بعض الفئات الاجتماعية المقصية أصلا مثل الحراطين والصناع، وما إلى ذلك تشعر بأنها مهجورة لمصيرها، على الرغم من بعض التدخلات التي غالبا ما يتم تحويل ثمارها لصالح الإقطاع المحلي؟ لماذا نندهش من أن سياستنا الاقتصادية، وخاصة الزراعية، تتسبب في انقسامات عميقة أفقية وعمودية حيث تشكل تهديدًا لوحدتنا وتماسكنا الاجتماعي؟ هل ينبغي لنا أن نستمر في مواجهة هذا التهديد الوشيك، أن نثق فى جدوى تدخلات وكالة التضامن وفى الصلاة بعيدا عن المقابر الحقيقية وفى التصفيق المدوي للبرجوازية الصغيرة المتعطشة للفتاة؟

على الصعيد السياسي، أخفقنا بالفعل في الاعتقاد بأننا نعيش في ديمقراطية حقيقية، اذ يعرف راعي ولات أنه حتى لو كانت الانتخابات شفافة، وهو ما لم يحدث أبداً ، فإن نتائجها تعكس دائمًا إرادة القادة ، وبدرجة أقل إرادة المجموعات القبلية والطبقية الكبيرة. أن الرئيس أو النائب أو العمدة مدني أو عسكري كان لا يغير مشكلة التمثيل طالما أن الانتخابات تجري بهذه الطريقة وليس على أساس برامج المرشحين وقدراتهم الشخصية.

ونتيجة لذلك، فإن الشخص الذي نحتاج إليه في الوضغ الراهن، سواء كان مدنيًا أو عسكريًا ، يجب أن يكون بيننا، هو الأكثر قدرة على قراءة تاريخنا بعناية واستخلاص النتائج منه. لاكتشاف قيم الإجماع ، والنظر إلى البلد بكلتا العينينوالاستسلام لمطلب التشاور، وان يكون متخصصًا في إصلاح المرايا المتكسرة وان يتذكر دائمًا ان العظمة والطمع لا تختلطان أبدًا في إناء واحد.  و بعبارة واحدة ، 
"أفضل القطط تلك التى  تمسك الفئران" كما يقول أصدقاؤنا الصينيون

ان هذه الفترة التي تطل عليها بلادنا تعتبر الخطوة الأخيرة من المسلسل الانتقالى الذي حلمنا به اذ ما زلنا بحاجة إلى رجل يتمتع بثقة القوات المسلحة دون أن يكون له حسابات خاصة مع الطيف السياسى. و من حسن الحظ اننا وجد نا هذا الرجل بالفعل، ولكن حتى لو لم نعثر عليه بعد، سيكون من السذاجة بمكان الاعتقاد بأن الجيش سيقبل عملية انتقال في سياق وطني يحمل جروح المشهد السياسي المليء بالعاطفة العقيمة اذ كان مسرحا دائما لسلوكيات مفجعة. سيكون من الضروري و الوا جب معا على الجميع إصلاح هذا المشهد وإعادة بنائه على أساس أكثر عقلانية وأقل ذاتية.  لذلك، فإن المعارضة والسلطة الحاكمة يخضعان للواجب الأخلاقي المتمثل في قبول هذا الإصلاح الذي يقتضى من حيث الأساس تعزيز الجوانب الإيجابية لحصيلة أولئك الذين حكموا البلاد لعقد من الزمن واد راج جرعة كبيرة من التدابير الكفيلة بامتثال متطلبات التشاور بين الاطياف السياسة و الحكم الرشيد والشفافية في تسيير الموارد العامة

يجب على الرجل الذي نحتاجه أن يكون حراً من أي شكل من أشكال التبعية الشخصية والوصاية لغير مصلحة ذلك البلد الذي دفن فيه العشرات من الأجداد. يجب أن يكون قادرا على صياغة وتنفيذ ميثاق وطني لإعادة تأسيس الدولة وتحديد معايير ومبادئ توجيهية في إدارة الشؤون العامة على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وذلك لطمأنة الموريتانيين جميعا أنهم لن يتم استبعاد أي منهم بسبب سياسات أو قوانين أو سلوك الوكلاء العموميين.  ان التفكير بخلاف ذلك من خلال السعي إلى الحفاظ على الانقسام النابع من عشر سنوات من السلطة سيحرم البلاد من فرصة نادرة لتكريس كل طاقاتها لتنميتها. والاعتقاد بأنه من الممكن استخدام رجل يحمله بلد على كتفيه كأداة مبتذلة من أجل استدامة نظام أو حكم اورجل آخر أو مصادر الإثراء غير المشروع على حساب شعب بأكمله؛ مجرد بلاهة واضحة. ولكن إذا حدث ذلك رغم هذا كله، فسوف نعود إلى ساحة البداية وستأخذ انشقاقاتنا منحى أخرى وأشكال أخرى، لأننا سنكون قد حاول كل شيء لتجنب الأسوأ.

 

إعلانات

 

 

 

تابعنا على فيسبوك